dark_king
عدد الرسائل : 14 العمر : 38 تاريخ التسجيل : 15/06/2007
| موضوع: قمر يدعى الوطن الأربعاء يونيو 27, 2007 12:13 am | |
| تحترق الأمنيات .. وحيدة وصامتة! ويختفي المطر.. يودّع الشرفات، قبلاته الناعمة لا تزال ملتصقة على نباتات النوافذ العالية، تتلألأ بفرح حائر ملامحه الدمع .. وكأنه البكاء! على الشرفات المشرعة للخواء يمكن للحزن أن يصمت قليلاً، فتتوقّف الذاكرة عن الثرثرة، وتنصت هي الأخرى لتسبيح العصافير وقد اجتهدت بالدعاء.. ويمكن للبرد أن يتوقّف على حواف الارتعاش وقد تسلّل الدفء إلى الأوصال واحتل مساحات الجسد الممتدة حتى احتراق الأنفاس.. ويمكن لثريا أن تلقي برأسها على قضبان الشرفة الخجولة، يمكنها أن تكرّر عبارات الصباح التي صارت جزءاً من تضاريس المكان، ويمكنها أن تبصق على الأرض من علو منزلها دون أن تشعر بالحرج، يمكنها أن تصرخ حتى يهتز جدران قلبها ولن تجد من يثيره الفضول ليواجهها بالسؤال.. غربة تتكوّر داخل غربة! والغربة ابتسامة بلا ملامح.. لا يمكنها أن تحمل السعادة لأحد! وثريا جنون الذاكرة وبؤس المخيّلة، تعلّمت كيف يكون الموت زهراً تنثره على وجهها فيتفتّح بالحياة، وكيف تحرق شوك قدميها بالرقص على الجمر دون أن تصرخ! تعلّمت كيف تدخل حين يشتد المطر جوف الشرنقة لتخرج لعين الشمس فراشة.. لكنها لم تتعلّم كيف تصنع الفرح! تصمت! تتأمّل الشارع المحايد، فتستمر بالصمت.. تتلفّت حولها، أنفاسه المنتظمة تستفزها (مازال ممكنا النوم!) تسرع نحوه، تهزّه بيد غاضبة، فيبتسم! - لم تكن نائماً! - ثريا.. توقّفي عن مراقبة من خلفك.. - ليتنا نعود! - أنا وأنت كل الأماكن لدينا سواء، نفرّ من غربة لغربة، نصنع وطننا بأيدينا. - كيف ونحن نفرّ منه إلى أنفسنا؟ - ألم تفهمي بعد؟ إنها طريقتنا للعيش دون جذور! تحدّق في وجهه، سبعة أعوام من الغربة على حدود شرفة أوروبية لم تفعل الكثير في ملامحه، ذلك الهدوء الساحر الذي يطل من عينيه يغريها بالإبحار لكنها تتردد.. أشياء كثيرة استطاعت أن تتشبّث بروحها وأمواج التشتت تتقاذفها دون أن تتلقّفها الشواطئ.. وأول الكلمات في أسطر عمرها الممزق كانت الحذر.. تسند رأسها إلى كفها وتبكي، فيهزّ رأسه بيأس، ليتدفّق الصمت..
رنين الهاتف يسلبها سكون المكان، فتنهض بخطى متثاقلة، بينما يكمل زوجها ارتداء ملابسه.. وبطريقة تخلو من الاهتمام ترفع سماعة الهاتف، فيغمرها الصوت.. - ثريا! أمي ماتت يا ثريا! بجمود قالت وهو يجهش بالبكاء: - متى عرفت يا عبد القادر؟ - اليوم! - أمي ماتت منذ ثلاثة أيام، ألم يخبروك؟ - لم يفطن أحد للاتصال بي في منفاي.. دفنوها وحيدة وعارية من أحبتها، لم تسترها قبلاتنا في مرقدها الأخير، المخيّم القبر ابتلعها ولم يبق لنا غير مرارة الذكريات.. ابتسامتها تسكنني يا ثريا، وتغلق نوافذ الصبر. ثم ارتعش صوته بالأنين: - سئمت الغربة، سئمت كل شيء، لم تعد الحياة تستحق منا كل هذا العناء.. خرجت منفياً عن حضنها، مزروعاً بشوك الهجرة، أنت تعرفين بأنه لم يكن قراري، مطروداً خرجت، وشكوكهم تلوّثني، متهماً بالبحث عن الوطن اعتقلتني عيونهم، ووطني على مرمى حجر.. - توقّف عن هذا الهذيان! - مقهور وعاجز! وسلاحي بلا رصاص، مسجون خلف الأسلاك الشائكة وقد توزّعت على كل المدائن.. ثريا! ماتت أمي وضاع مني ما تبقّى من الوطن. لم تكن متأكدة من انقطاع الخط، لكنها أعادت سماعة الهاتف إلى مكانها، وصارت شبحاً في غرفة من نار.. ها هي تجلس في باحة الدار.. سقفها السماء وهواؤها أنفاس الناس المتذمّرين من الحرّ والمرض، تجلس مع أمها المسكونة بذكريات الرحيل.. تعوّدت ثريا أن تواجه بجمود عينيها شفقة الناس وهم يراقبون أمها تحمل سلّة الخضار على رأسها لتبيعها في أحد شوارع مخيّم البقعة شرق النهر، وكانت تتساءل دائماً عن سرّ تلك الشفقة التي تطلّ من عيونهم وكلهم يفتّتهم التشتت، ويقضي على ما تبقّى من رجولتهم ذل النزوح عن الوطن.. في المخيّم مطر من حصى، وقمح حبّه الشوك، وفي المخيّم أغنيات تزرع الثورة، فتقطفها أيدي الخائفين من ثمار النار، وتلقيها في جليد السجون.. كانت تحدّثها أمها عن التراب الودود، عن الشجر حين يصبح زهراً في ألق العيون، وعن قمر يهب نوره لكل الفصول.. تحدّثها عن والدها الذي مات ويده تشدّ على الزناد، وبين ضلوعه البندقية.. تحدّثها عن مرارة التخلّي عن مواقع القدمين، عن ذلّ الخروج من الأبواب دون إغلاقها والأيدي تلوّح بالمفاتيح.. كانت ثريا تصغي.. وتصغي شقيقاتها بالحيرة، وبالتمرّد تنفّس عبد القادر الكلمات! مخيّم البقعة المكتظّ بالبضائع والأنفاس يوشك أن يتفجّر غضباً، والعيون دائمة التحديق بشاشات التلفاز. نشرات الأخبار قهر يصادر الصراخ من على شفاه الناس، ويلبسهم عباءات الصمت، فتنتظم -رغم اضطراب النبض- الأنفاس.. المخيم عربات الباعة وقد بحّت أصواتهم، دكاكين الخائفين من ثقل الهراوات، والمخيّم سلّة أم ثريا، وابتسامتها التي سريعاً ما تتكسّر إذا ما لامست هواء التشرّد على أرصفة الباحثين عن اللقمة. نوافذ المخيّم ترصد الوطن من الصحف ونشرات الأخبار، تراقبه بالدمع حيناً وحيناً بالتكبير، وتتحجّر الحناجر مع حجارة الوطن الذبيح بالهتاف.. وتتوحّد الملامح من عتبات القمع في المخيمات المعتقلة بتهمة انتصاب الذاكرة حتى الشوارع الملغومة بأطفال تعلّموا الموت مع حجارتهم، لتزهر الحياة! ثريا وشقيقاتها ارتشفن الصمت، تجرّعن الصبر واكتفين بتكرار التجربة.. في المنفى ولدت آلامهم، وخلف الأسلاك الشائكة توقّفت آمالهم واستسلمت للغياب.. لكنهن يعرفن بأن الحياة تدوس من لا يتعلّق بأذيالها، فركضن خلف الأمنيات.. ارتدين الفرح، وتجوّلن في شوارع البهجة بقلوب مغلقة.. ذهب كل شيء ولم يبق غير إرادة البدء لصناعة وطن جديد. تزوجن! وتوزعن على المدائن الملوّنة! لكل واحدة منفى.. تزرعه أطفالاً وجذوراً تمتد إلى أعلى! وبقيت سلّة الخضار على الرصيف تدعو المارة للتريّث، وابتسامة عجوز حملت مرارة السنين كلمات ودعاء يعد المشترين بالبركة، وتحت الخضار عدد من الرسائل يقرأها المارة لها كلما اشتدّ بها الحنين للبنات.. نباتات تنمو في الهواء كل الذين بلا وطن! ووجوههم شاحبة! ولا شيء يخمد الذاكرة إن كان الحاضر استمرار الحريق.. يرن الهاتف من جديد، وترفع ثريا سماعة الهاتف بالطريقة نفسها، فيتسلل إليها صوت شقيقتها الصغرى: - منذ وفاة أمي لم أنم يا ثريا! أحسّ أنفاسها قربي كلما أغمضت عينيّ. - كنت تنامين حين تحسّين بها! - الموت يخيفني. - الحياة تخيفني أكثر! وانقطع الصوت فجأة حين عادت السماعة إلى مكانها من جديد، ليرن الهاتف مرة أخرى.. - ثريا! أختك سمية أخبرتني بأنك مصدومة لأننا فقدنا أمنا.. - ربما فقدنا الكثير من الأشياء! - شقيقنا عبد القادر لا يتوقّف عن البكاء! - في المنفى يصبح المرء دمية يزرعونها بالدبابيس، ومع الوقت تتعلّم كيف تتمزّق دون أن تتألم! - ترى أين دفنوا أمي! - في مكان ما.. بعيدا عن الوطن! - من الوفاء أن نزور قبرها؟ - عندما يدفن كل منا في منفاه.. لن نظلّ أوفياء. تعيد سماعة الهاتف إلى مكانها، وتضع أصابعها في أذنيها وتصرخ.. أرادت أن تتشاجر مع زوجها، أن تبكي! وتلقي ملابسها من النافذة، لكن زوجها أغلق الباب خلفه عندما غادر الغرفة، وتركها تحترق بنيران الذاكرة.. حنين يعصف بأمها ويهزّها بعنف حين تستحضر حلاوة الأيام في نابلس وتتألّم، فيتألّم معها أبناؤها وكل ما لديهم صور مشوّشة عن الشوارع العتيقة يجلّيها الخيال.. كانت ثريا أكبرهم وأقربهم إلى أمها، وتعرف جيداً معنى الصمود في وجه الانصهار للاحتفاظ بالملامح، وتعرف كم باهظ ثمن الكلام في زمن تعوّد الصمت! جدران المخيم خرائط فلسطين وقد ارتسمت على صفحاتها الحارات بأبوابها والنوافذ! كلمات عن الصمود والثورة، عن العودة على حدود الدم خطّتها أيد لم تلامس تراب الوطن لكنها احتفظت بعمق الذاكرة.. (بسكّين الفزع تقطّع الناس، فصارت لهم ملامح الموت على جانبي الأسلاك الشائكة) هذا ما اكتشفته ثريا وهي تحدّق في القادمين من غرب النهر لزيارة أقاربهم في المخيّم، وكانت تتساءل في قرارة نفسها عن سر هذا التوحّد في الملامح بين قيد المنفى تحت السقف المفتوح في المخيّم وبين قيد المحتل! فلسطين تولد مع أول الأنفاس في المخيّم، تولد مع أول الكلمات.. تشق بذرتها السمراء أفئدة الباحثين عن لون للانتماء، وتخرج للنور قراراً بالعودة! لكن الحياة تتفتّح كزهرة، وتشد برحيقها الناس، فيتوزّعون على المرافئ بحقائب تحمل مع أشيائهم ذلّ الرحيل.. يتكاثرون في المنفى وتكثر آلامهم ويشتدّ الحنين.. ترهقهم ذاكرة الآباء وتصنعهم، فيصنعون منها قلائد الصبر والانتظار.. ثريا أيضا تنتظر! رحلت كغيرها لتنبت في الرمال بلا جذور.. ويخضرّ قلبها ولا يزهر! حين تأتيها رائحة الزعتر من سلّة أمها في المخيّم.. وتجتاحها مرارة التذكّر.. - أمي توقّفي عن حمل تلك السلة، إننا نرسل لك الكثير من المال.. غدا يعود عبد القادر ويتغيّر كل شيء. - علّمتني الحياة ألا أثق بالغد.. - أنت من يقول هذا؟ - أنا من جرّب هذا! تنتفض ثريا بقشعريرة تنتشر في جسدها وهي تستقبل رنين الهاتف، فترفع السماعة بيد باردة - كان صدر أمي يتّسع لبكائي، فعلى صدر من سأبكي أمي يا ثريا؟ - لا بكاء لمن لا وطن له! - ثريا أنا أتحدّث عن أمي! بجمود سألتها: - أما زلت ترغبين في العودة إلى المخيم؟ - بعد رحيل أمي كل الأماكن سواء. صمتت قليلا ثم أكملت: - لا أحد من شقيقاتك يرغب في السفر إلى هناك - وعبد القادر؟ - مقيد في منفاه! كان وجهها يرتعش بالبكاء وسماعة الهاتف تسقط من يدها، وهي تردد كلمات أغنية ظنّت بأنها نسيتها (على الشوك يولدون، غرباء يدفنون، وفي عمق عتمتهم قمر يدعى الوطن
| |
|